الصفحات

الثلاثاء، 14 يونيو 2011

الهدية!!

السلسله القصصيه

(2)

 الهدية!!

عبدالرحمن العسلي


ذات يوم أهديتُ إنسانة هدية ، إن لم تخُني الذاكره ، كانت كُتيبا صغيرا او قلما ، ببساطتها – أي الهديه- لم تتعدَ أن تكون مُجرد هديه لا تعني سوى عربون احترام وتبادل لمكنونات التقدير فحسب ، ونسيتها أنا كعادتي ، بصراحه هي عادةٌ ورثتها عن امي وهي أن أنسى الأشياء ، وهي عادة كذلك ورثتها عن الدي وهي عدم تقدير هذه الأشياء الثانويه بنظره وإعطائها حقها.. حسنا ، لم أكن أُدرك في ذلك معنى الهدية سوى أنها وسيلة لنشر فكرة إقتنعت بصوابيتها فأهديتها الكتاب لتسفيد فحسب ، لم يكن وراء الأمر أي تضمينات عاطفية على الإطلاق ، فكما عودني أبي ، لا بد أن تنظر للعظائم الأمور وأترك عواطفها الى وقت سيحين بالرغم عنك..


تكالبت عليَ العظائم تلك فلم تترك مني شيئا الا وملئته بمصطلحات الجد والحزم كتلك التي نقرأها في كُتب القراءه والمحفوظات في المرحلة الثانويه الهدف ، الطموح ، بناء الذات ، استشراف المستقبل ، الكفاءه ، هموم الأمه ، مستقبل الوطن ، التعاون ، مساعدة المساكين ، كل هذه المعاني كانت حاضرة وليس سواها أثناء دراستي الجامعية بطول سنينها ومعاناتها ، لم يلتفت هذا الجسم النحيل لسوى هذه الصرخات التي كانت ثقيلة بمقتضاياتها وبمدلولاتها ، ولكأن القضايا الإنسانية برمتها مركونةٌ على كاهلي فلا أحدٌ غيري مسؤول عنها ، لم تبقَ مساحة لعوالم العاطفة الناشرة حنانها وجمالها وعطفها في أنحاء متفرقه من الجسد النحيل ، كانت نداءات الحاجة تصرخ أن أجيب – أيها المُثقل- داعي الروح ، داعي الحُب ، داعي الطمأنينه الروحانيه ، تمردٌ عنيف لم اعهده من ذي قبل كان يرفض مثل هذه النداءات ، يكفر بحروفها وبعذوبة طربها ، كأنه قرر أن يُحارب سنن الكون في عقر داره ، ظل هذا التمردُ سيد الساحة حتى وقت متأخر من حياتي ، فالعقل المشبع بهموم القوم كان ينتصر فالوقت قد أخذ حقه في ترسيخ هذه المفاهيم منذ زمن ، منذ نعومة الأظافر...


لا معنى لزقزقة العصافير-في ذلك العالم- عند تفتح زهرات الصباح الباكر ، لا معنى لبزوغ الضوء بهدوء ووقار ليحكي للناس أن ترسلوا في أحلامكم ، في امانيكم ، في معاملاتكم مع بعضكم البعض ، الشمس تكسي الأرض حلة هي أشبه بنور الذهب لتبدوَ الأرضُ ومن عليها كعروس في عز شبابها ، جميلة الوجه ، وقورة المطلع ، وعميقة الفكر ، فتُزفَ لشاب متوسط الطول ، مُهاب الوقفه ، مبتسم الوجهه ، فصيح المعاني ، فترسم الجمال ولكن بأجمل الألوان ، وأفضل الخطوط ، وتناسق المواد ، فتُرى الأرض ومن عليها صنعة ربانية تبارك صانعها ، وتعالى في عُلاه.


ااااه كم من اهات الإعجاب والإندهاش تنبعث من فؤادي ، أيُ إبداع أودع في هذه الأرض ، وما أرقى إبداع الخالق عز في عُلاه ، زخات المطر ، جمال تساقطها ، لولبية قطراتها ، سيرها في خطوط متوازيه ، تعانقها مع التربه المشتاقه ، وعندما يُسدل الستار تتراى خطوطُ الشمس وقد استعدت لتبدو من مكان مُشرف على الأرض فتُرسل خطوط الإمداد الروحي ليتعانق و قلوب البسطاء من البشر ، فترسم البهجة والفرحة والسكينة الآهية في مُحياهم وعلى وجوههم الشاحبه ، فيتبادلون الرحمات بما يشبه الكرنفال الإلاهي الذي يشحن النفوس برحمة هي مُهداة من عنده لتعم البشرى والرحمة والتآلف ، فابداعٌ يعضُده إبداع ينتج عنهما إبداعٌ هو سرُ روعة الأرض وسموها ، ذلكم الإبداع هو الرحمة ...


الرحمة إحداثيات دقيقة في مكان إلآهي مكنون تحرسه فلسفات لا نُدركها نحن البشر لمحدودية عقولنا ، تنبعث حين تطغى روح السر التكويني على مادية الحاجة البنائيه ، فتكون الرحمة بمثابة مكافأة إلآهية تليق بمكانة المكافي نتيجةً لهذا التحول الراقي المصحوب بتغيرات صادقة حقيقية لأعماق الذات الغامضه ، فليس كل غامض يُرى لكنه يُدرك بترتيبات دقيقة يعلمها مُنشئُ هذا الغموض .


بين جمالية هذه المعاني ، كان النزوع لمهاجمتها بقسوة يأسرني بدراماتيكية رهيبه حتى فقط لا اعترف بها ، لإن الإعتراف بها يعني إفراغ شيئ من وقت أو جهد لهذه العواطف القاهره ، إنها تعني أن أترك للقلب حريته ليعبث بما تبقى لي من وقت كنت أدخره لقرأة كتاب فلسفي أو تفكر في ظاهرة طبيعية طالما كانت تؤرقني وهي ذبول الشمس بعد هيجانها في عز الظهيره ، رُبما لأني كنتُ أخشى أن أحتك مع الآخر فأصبح مقيدا ومحكوما بقواعده هو وبفلسفاته هو ، لكن السبب الأقوى هو خوف من مجهول يتربص بي كالحيرة القاتله ، والتشتت العنيف.


صراع بين القلب والعقل ، بين الرحمة والحزم ، بين الإنسان والطفل ، بين القوة والعنف ، بين الجمال والعناد ، بين الإتكاليه والإرتجاليه ، بين المغامره والتوجس من المستقبل ، بين مفاتيح المعرفه الخمسه التي تتكامل في معظم فتراتها ولا تتبادل : منْ ولماذا وكيف واين ومتى. كل سؤال كان يؤجج الحقد والحسد بين أقرانه ، ينشر بينهم الخوف من الآخر ، لم تعد سلسله من الأشياء المنطقية المرتبه بقدر ما هي حلقاته إنفصمت عُراها ، وأصبح كلُ سؤال يُحذر من الآخر ويمنعني بكل ما أوتي من قوة حتى لا اصل الى التالي.


مرت ما يُقارب الأربع سنوات ، عالم محصور أعرف حدوده بدقه ، تفاصيله القليله ، مواقيته وحساب شهوره ومناسباته ، لا عجب في ذلك فلم يكن في ذلك العالم سوى أنا وكتُبي المرصعة برسومات هي أشبه ما تكون بطلاسم خيالية جُعلت كُتبا فقط لإسقاط واجب ، ولإقناعنا بخدعة الأربع السنوات من التعليم حتى ننال شهادة ما وننال بجانبه لقبا يسبق اسماءنا ولا نسبقه نحن ، منفً لم يكن عالما او كبقية المنافي كان منفً خياليا خاليا سوى مني ومن كُتبي الطلاسميه ، لا شيئ تكسبه سوى ان تعشق الطلاسم وتكون قادرا على فك شفراتها وتأليف طلاسم جديده على خلفية الناجح هو القادر على تشكيل طلاسم جديده معقده من مجموعة من الطلاسم البدائيه السهله. 


الهديه ، مرةً أُخرى ، كانت كالسحر الزاحف لكن ببراءه ، كأنسام العبير الأنيق ، كتسامي الفكره الخالده ، كعنفوان بساطة الفقير الواثق من نفسه ، كضحكة الطالب المحزون في ليلة إختبار ، كانت كشوق البحر للزحف الى ما وراء حدوده ، يحاول كالطفل ان يتحرك ، أن يمشي ، أن يُغادر سجنه الذي هو قابعٌ فيه منذ زمن ، كانت تلك الهديه عربونُ شفقة جاءت نتاجا لبساطةٍ لم أكن أعيها ، كنت حينذاك غارقا في عالمي الخاص ، هي صدفة تعتقت مع مرور الزمن فأصبحت حقيقة ملئ السمع والبصر ، خالصة كخلوص الطفل البريء من الكذب والنفاق والخداع ، صادقة كصدق الحُب الأزلي ، كريمةً ككرم الإنسان اليمني البسيط ، نقيةٌ كنقاء طالب مُبتعث لا يجد ما يأكل قبل وصول مساعدته الماليه ، وطموحةٌ كطموح أمي التي ظلت تُكابد من أجلي طيلة عمرها.


قالتها بصوتها الرخم ، الرحيم ، بالأمس نظرت الى هديتك ، برغم بساطتها الا أني لا زلت أعشقها ، لا ادري ما الذي يدفعني لعشقها ، أما زلت تذكرها ؟! (تساءلت)..


يا الله ما هذه (الورطه) ... بعث في هذا السؤال موجات من التأنيب ومراجعة خلجات الإنسانية بداخلي .. حاولت الإلتفاف ، جردت كل معاني اللغه لكي اهرب ، لم أستطع ولكأنها كانت تحس بأني لم أعد أذكر أني أهديتها ذات يوم هديه... حاولت تغيير الموضوع ، ألتفت يمينا ويسار ، لم استطع الهرب مجددا ، إنهارت كلُ محاولاتي وباءت بالفشل ، حينها شعرتُ كم اني ضعيف ، كم أني كنتُ ديكتاتوريا عندما قررت أن امنع قلبي من أخذ حقوقه بل من المطالبة بها ، تلعثمتُ قليلا وكنتُ صريحا..


قلتُ : صدقيني لقد أكل الزمان مني وشرب ، هذا كان قبل اربع سنوات يا عزيزتي....


شعرتُ ولكأن الحُزن يحيط بها من كل مكان ، خاب أملها ، تستغيث بقطرات أمل لتُفسر لها ما يحدث ، لا أدري هل كانت مصدومة من صراحتي ام من نسياني للهدية ، وبين هذه التفاعلات الحزينه والإستغرابيه ، إستدركت قائلةً: لا عليك هديتك لا زالت موجودةً ، وبالمناسبة كنت أحدق فيها بالأمس ، وترسلت بحديثها حتى تستغل الوقت لتنتصر على ذاتها المهزمه ، وقالت بنبرة حزينةٍ مازحةً : ما دام انك نسيت هديتك فسأهديها لأحد غيرك ، ثم اتبعتها بضحكة متوسطه القهقه...


أيتها السماء مالي ولهذا العذاب ، ما اشد لسعه ، وما اقسى وطأته ، ماذا صنعتُ لأتجرع هذا العناء وهذه المكابده ، حقا لا استطيع أن أتحمل أكثر ، أشعر وأن كل من حولي ينظر اليَ بنظرات الرحمه ، يعاتبني بنظراته فيقتلني أكثر ، يُجردني من إنسانيتي المزعومه ، تذكرت حينها مشهدا كنتُ قد قرأته في رواية دعني أهرب لفريد هيتشكوك عن الرجل الذي ظل يتوسل للمراءة حتى قُتل بسببها لكن ذلك لم يُسعفه أن يحصل على شيئ من حبها لتنازله عن مبدئه ، قلت لا فرق فكلانا متعصبين ، هو اسرف في التقرب وانا أسرفت في الإعراض...


إعذريني ايتها المراءة الطيبه ، لقد نسيت ، سأحاول أن اتذكر فإن فعلت فهي إذا ومضات أمل لإستعادة ما حاولتُ إنكاره منذ حين ، وإن لم أفعل فأتقدم باعتذاري الشديد لكِ ، أعتذارٌ هو ملكك أنت ولا أحدٌ سواك ...


قالت بصوتٍ خافت –وكانت منصفه- يا عزيزي من ينسى هديته ينسى ما دون ذلك ، سأحتفظ بهديتك إكراما لك ، ولن أُهديها لأحد ، لكني أنصحك في المرة المُقبله ، إذا قررت أن تهديَ شيئا فتأكد أنك لن تنساها ، فقيمة الهديه بتقديرك لمن تهدي اليه ، وقيمة الهديه بمدى تذكرك لها ، راجع هدية الرحمان التي في قلبك ، هي تحتاج أن ترعاها ، إهمالك لهدية الرحمان – الحُب- معناه انك تنازلت عن بعض من إنسانيتك ، بعض من سموك ، الإنسان منظومة متكامله من الأهداف من الأحاسيس من التفاعل مع الآخر ، الإنسان إن لم يُحافظ على توازنه وتفاعله مع الآخر يفقد بريقه ، ويصبح غموضا ولكن بصيغة إنسان ، يصبح مجهولا في عالم مليئ بالمعارف ، يصبح قطعة متحركة لا تفقه سوى التحرك ولا غير...


واستطردت قائلة : ياهديتي كنتُ ذات يوم أرى فيك هدية الله تكبر وتتألق لكنك لم تكن تراها أنت ، أشكرك على لحظات جعلتني أقدر هدية الله ، ولن أبخل عليك بنصيحه ، إذا ما رأيت هدية الله بذاتك فحينها أنت إنسانٌ فقط حينها أنت إنسان...



هناك تعليق واحد:

  1. سرد رائع .. و لغة جميلة ..من خلال قراءة النص تدرك أنك أمام نص قد اجتمعت فيه بلاغة اللغة بفلسفة الوصف و حكمة المقصد .. رائع ما كتبت .. دمت رائعا كما أنت !
    Amar Al-Amar

    ردحذف